فصل: قال صاحب روح البيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{إنَّمَا يُؤْمنُ بآياتنا} استئناف مسوق لتقرير عدم استحقاقهم لإيتاء الهدى والإشعار بعدم إيمانهم لو أوتوه بتعيين من يستحقه بطريق القصر كأنه قيل: إنكم لا تؤمنون بآياتنا الدالة على شؤوننا ولا تعملون بموجبها عملًا صالحًا ولو ارجعناكم إلى الدنيا وإنما يؤمن {الذين إذَا ذُكّرُوا بهَا} أي وعظوا {خَرُّوا سُجَّدًا} أثر ذي أثير من غير تردد ولا تلعثم فضلًا عن التسويف إلى معاينة ما نطقت به من الوعد والوعيد أي سقطوا ساجدين تواضعًا لله تعالى وخشوعًا وخوفًا من عذابه عز وجل، قال أبو حيان: هذه السجدة من عزائم سجود القرآن، وقال ابن عباس: السجود هنا الركوع.
وروي عن ابن جريج ومجاهد أن الآية نزلت بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارىء لآية السجدة يركع واستدل بقوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكعًا وَأَنَابَ} [ص: 42]. اهـ.
ولا يخفى ما في الاستدلال من المقال: {وَسَبَّحُوا بحَمْد رَبّهمْ} أي ونزهوه تعالى عند ذلك عن كل ما لا يليق به سبحانه من الأمور التي من جملتها العجز عن البعث ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه جل وعلا التي أجلها الهداية بإيتاء الآيات والتوفيق إلى الاهتداء بها فالحمد في مقابلة النعمة، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال، والتعرض لعنوان الربوبية بطريق الالتفات مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة التسبيح والتحميد بأنهم يفعلونهما بملاحظة ربوبيته تعالى لهم {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبرُونَ} عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصر مستكبرًا كأن لم يسمع الآيات، والجملة عطف على الصلة أو حال من أحد ضميري {خَرُّوا} و{سَبَّحُوا} وجوز عطفها على أحد الفعلين، وقوله تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَن المضاجع} جملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم.
وجوز أن تكون حالية أو خبرًا ثانيًا للمبتدأ، والتجافي البعد والارتفاع؛ والجنوب جمع جنب الشقوق، وذكر الراغب أن أصل الجنب الجارحة ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال، و{المضاجع} جمع المضجع أماكن الاتكاء للنوم أي تتنحى وترتفع جنوبهم عن مواضع النوم وهذا كناية عن تركهم النوم ومثله قول عبد الله بن رواحة يصف النبي صلى الله عليه وسلم:
نبي تجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

والمشهور أن المراد بذلك التجافي القيام لصلاة النوافل بالليل وهو قول الحسن. ومجاهد. ومالك. والأوزاعي. وغيرهم وفي الأخبار الصحيحة ما يشهد له، أخرج أحمد. والترمذي وصححه. والنسائي. وابن ماجه. ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة. وابن جرير. وابن أبي حاتم. والحاكم. وصححه. وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير فقلت: يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال: «لقد سألت عن عظيم وأنه يسير على من يسره الله تعالى عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل» ثم قرأ: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَن المضاجع} حتى بلغ يعملون الحديث.
وقال أبو الدرداء. وقتادة. والضحاك هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة، وعن الحسن. وعطاء هو أن لا ينام الرجل حتى يصلي العشاء، أخرج الترمذي وصححه. وابن جرير. وغيرهما عن أنس قال: إن هذه الآية {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَن المضاجع} نزلت في انتظار الصلاة التي تدعي العتمة، وفي رواية أخرى عنه أنه قال فيها: نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو أن يصلي الرجل المغرب ويصلي بعدها إلى العشاء، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن عدي وابن مردويه عن مالك بن دينار قال: سألت أنس بن مالك عن هذه الآية {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَن المضاجع} قال: كان قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الأولين يصلون المغرب ويصلون بعدها إلى عشاء الآخرة فنزلت هذه الآية فيهم، وقال قتادة وعكرمة: هو أن يصلي الرجل ما بين المغرب والعشاء؛ واستدل به بما أخرجه محمد بن نصر عن عبد الله بن عيسى قال: كان ناس من الأنصار يصلون ما بين المغرب والعشاء فنزلت فيهم {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَن المضاجع}.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: تتجافى جنوبهم لذكر الله تعالى كلما استيقظوا ذكروا الله عز وجل إما في الصلاة وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله تعالى، وروى نحوه هو ومحمد بن نصر عن الضحاك والجمهور عولوا على ما هو المشهور، وفي فضل التهجد ما لا يحصى من الأخبار وأفضله على ما نص عليه غير واحد ما كان في الأسحار.
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} حال من ضمير {جُنُوبُهُمْ} وقد أضيف إليه ما هو جزء، وجوز على احتمال كون جملة {تتجافى} الخ حالية أن تكون حالًا ثانية مما جعلت تلك حالًا منه وعلى احتمال كونها خبرًا ثانيًا للمبتدأ أن تكون خبرًا ثالثًا، وجوز كونها مستأنفة، والظاهر أن المراد بدعائهم ربهم سبحانه المعنى المتبادر، وقيل: المراد به الصلاة {خَوْفًا} أي خائفين من سخطه تعالى وعذابه عز وجل وعدم قبول عبادتهم {وَطَمَعًا} في رحمته تبارك وتعالى فالمصدران حالان من ضمير {يَدَّعُونَ} وجوز أن يكونا مصدرين لمقدر أي يخافون خوفًا ويطمعون طمعًا وتكون الجملة حينئذٍ حالًا، وأن يكونا مفعولًا له ولا يخفى أن الآية على الحالية أمدح.
{وَممَّا رزقناهم} إياه من المال {يُنفقُونَ} في وجوه الخير.
{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ} أي كل نفس من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلًا عمن عداهم فإن النكرة في سياق النفي تعم، والفاء سببية أو فصيحة أي أعطوا فوق رجاءهم فلا تعلم نفس {مَّا أُخْفىَ لَهُم} أي لأولئك الذين عددت نعوتهم الجلية {مّن قُرَّة أَعْيُنٍ} أي مما تقر به أعين، وفي إضافة القرة إلى الأعين على الإطلاق لا إلى أعينهم تنبيه على أن ما أخفي لهم في غاية الحسن والكمال.
وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتكم عليه اقرءوا إن شئتم: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}».
وأخرج الفريابي. وابن أبي شيبة. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني. والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنه لمكتوب في التوراة «لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع إذن ولم يخطر على قلب بشر» ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وأنه لفي القرآن فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين {جَزَاء بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي جوزوا جزاءً بسبب ما كانوا يعملونه من الأعمال الصالحة فجزاء مفعول مطلق لفعل مقدر والجملة مستأنفة.
وجوز جعلها حالية، وقيل: يجوز جعله مصدرًا مؤكدًا لمضمون الجملة المتقدمة، وقيل: يجوز أن يكون مفعولًا له لقوله تعالى: {لاَ تَعْلَمُهُمْ نَفْسٌ} على معنى منعت العلم للجزاء أو لأخفي فإن إخفاءه لعلو شأنه، وعن الحسن أنه قال: أخفى القوم أعمالًا في الدنيا فأخفى الله تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت أي أخفي ذلك ليكون الجزاء من جنس العمل.
وفي الكشف أن هذا يدل على أن الفاء في قوله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ} رابطة للأحق بالسابق وأصله فلا يعلمون والعدول لتعظيم الجزاء، وعدم ذكر الفاعل في {أُخْفىَ} ترشيح له لأن جازيه من هو العظيم وحده فلا يذهب وهل إلى غيره سبحانه اه فتأمل.
وقرأ حمزة. ويعقوب. والأعمش {أُخْفىَ} بسكون الياء فعلًا مضارعًا للمتكلم، وابن مسعود {نُخْفى} بنون العظمة، والأعمش أيضًا {أخفيت} بالإسناد إلى ضمير المتكلم وحده، ومحمد بن كعب {مَّا أُخْفىَ} فعلًا ماضيًا مبنيًا للفاعل.
و{مَا} في جميع ذلك اسم موصول مفعول {تَعْلَمْ} والعلم بمعنى المعرفة والعائد الضمير المستتر النائب عن الفاعل على قراءة الجمهور وضميره محذوف على غيرها، وقال أبو البقاء: يجوز أن تكون {مَا} استفهامية وموضعها رفع بالابتداء و{أُخْفىَ لَهُم} خبره على قراءة من فتح الياء وعلى قراءة من سكنها وجعل {أُخْفىَ} مضارعًا يكون {مَا} في موضع نصب بأخفى ويعلم منه حالها على سائر القراءات، وإذا كانت استفهامية يجوز أن يكون العلم بمعنى المعرفة وأن يكون على ظاهره فيتعدى لمفعولين تسد الجملة الاستفهامية مسدهما، وعلى كل من احتمالي الموصولية والاستفهامية فالإبهام للتعظيم.
وقرأ عبد الله. وأبو الدرداء. وأبو هريرة. وعون. والعقيلي {منْ قَرَأْتَ} على الجمع بالألف والتاء، وهي رواية عن أبي عمرو وأبي جعفر والأعمش، وجمع المصدر أو اسمه لاختلاف أنواع القرة، والجار والمجرور في موضع الحال. اهـ.

.قال صاحب روح البيان:

{إنَّمَا يُؤْمنُ بآياتنا} أي: إنكم أيها المجرمون لا تؤمنون بآياتنا ولا تعملون بموجبها عملًا صالحًا ولو رجعناكم إلى الدنيا كما تدعون حسبما ينطق به قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام: 28) وإنما يؤمن بها {الَّذينَ إذَا ذُكرُوا بهَا} وعظوا، بالفارسية: ندداده شوند {خَرُّوا سُجَّدًا}.
قال في المفردات: خر سقط سقوطًا سمع منه خرير والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من العلو فاستعمال الخرور في الآية تنبيه على اجتماع أمرين: السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح.
وقوله بعد {وَسَبَّحُوا بحَمْد رَبهمْ} تنبيه على أن ذلك الخرير كان تسبيحًا بحمد الله لا شيئًا آخر انتهى أي: سقطوا على وجوههم حال كونهم ساجدين خوفًا من عذاب الله {وَسَبَّحُوا} نزهوه عن كل ما لا يليق به من الشرك والشبه والعجز عن البعث وغير ذلك {بحَمْد رَبهمْ} في موضع الحال أي: ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه كتوفيق الإيمان والعمل وغيرهما {وَهُمْ لا يَسْتَكْبرُونَ} الظاهر أنه عطف على صفة الذين أي: لا يتعظمون عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصر مستكبرًا كأن لم يسمعها وهذا محل سجود بالاتفاق.
وينبغي أن يدعو الساجد في سجدته بما يليق بآيتها ففي هذه الآية يقول: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك وكره مالك رحمه الله قراءة السجدة في قراءة صلاة الفجر جهرًا وسرًا فإن قرأ هل يسجد فيه قولان كذا في فتح الرحمن.
قال في خلاصة الفتاوي: رجل قرأ آية السجدة في الصلاة إن كانت السجدة في آخر السورة أو قريبًا من آخرها من بعدها آية أو آيتان إلى آخر السورة فهو بالخيار إن شاء ركع بها ينوي التلاوة وإن شاء سجد ثم يعود إلى القيام فيختم السورة وإن وصل بها سورة أخرى كان أفضل وإن لم يسجد للتلاوة على الفور حتى ختم السورة ثم ركع وسجد لصلاته سقط عنه سجدة التلاوة.
وفي التأويلات: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبرُونَ} عن سجودك كما استكبر إبليس أن يسجد لك إلى قبلة آدم ولو سجد لآدم بأمرك لكان سجوده في الحقيقة لك وكان آدم قبلة للسجود كما أن الكعبة قبلة لنا في سجودنا لك انتهى.
قال بعض الكبار: وليس الإنسان بمعصوم من إبليس في صلاته إلا في سجوده لأنه حينئذٍ يتذكر الشيطان معصيته فيحزن ويشتغل بنفسه ويعتزل عن المصلي فالعبد في سجوده معصوم من الشيطان غير معصوم من النفس.
فخواطر السجود كلها إما ربانية أو ملكية أو نفسية وليس للشيطان عليه من سبيل فإذا قام من سجوده غابت تلك الصفة عن إبليس فزال حزنه واشتغل بك.
فعلى العاقل أن يسارع إلى الصلاة فريضة كانت أو نافلة حتى يحصل الرغم للشيطان والرضى للرحمان ويتقرب الروح إلى حضرة الملك المتعال ويجد لذة المناجاة وطعم الوصال.
اللهم اجعلنا من أهل سجدة الفناء إنك سميع الدعاء.
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ}.
استئناف لبيان بقية محاسن المؤمنين.
والتجافي النبوّ والبعد أخذ من الجفاء فإن من لم يوافقك فقد جافاك وتجنب وتنحى عنك والجنوب جمع جنب وهو شق الإنسان وغيره.
والمعنى ترتفع وتتنحى أضلاعهم {عَن الْمَضَاجع} أي: الفرش ومواضع النوم جمع مضجع كمقعد بمعنى موضع الضجوع أي: وضع الجنب على الأرض، وبالفارسية: دور ميشود هلوهاى ايشان از خوابكهها وفي إسناد التجافي إلى الجنوب دون أن يقال يجافون جنوبهم إشارة إلى أن حال أهل اليقظة والكشف ليس كحال أهل الغفلة والحجاب فإنهم لكمال حرصهم على المناجاة ترتفع جنوبهم عن المضاجع حين ناموا بغير اختيارهم كأن الأرض ألقتهم من نفسها وأما أهل الغفلة فيتلاصقون بالأرض لا يحركهم محرك {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} حال من ضمير جنوبهم أي: داعين له تعالى على الاستمرار {خَوْفًا} من سخطه وعذابه وعدم قبول عبادته {وَطَمَعًا} في رحمته قال عليه السلام في تفسير الآية: قيام العبد من الليل يعني أنها نزلت في شأن المتهجدين فإن أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل.
وفي الحديث: «عجب ربنا من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أحبته وأهله إلى صلاته فيقول الله تعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين أحبته وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وإشفاقًا مما عندي ورجل غزا في سبيل الله فانهزم مع أصحابه فعلم ما عليه من الانهزام وماله في الرجوع فرجع حتى أهريق دمه فيقول الله لملائكته انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وإشفاقًا مما عندي حتى اهريق دمه» وفي الحديث: «إن في الجنة غرفًا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن ألان الكلام وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام» قال ابن رواحة رضي الله عنه يمدح النبي عليه السلام:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ** إذا انشق معروف من الفجر ساطع

أرانا الهدي بعد العمي فقلوبنا ** به موقنات إن ما قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالكافرين المضاجع

وفي الحديث: «إذا جمع الله الأولين والآخرين جاء مناد بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادي ليقم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فيقول ليقم الذين يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرّحون جميعًا إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس».
واعلم أن قيام الليل من علو الهمة وهو وهب من الله تعالى فمن وهب له هذا فيلقم ولا يترك ورد الليل بوجه من الوجوه.
قال أبو سليمان الداراني قدس سره: نمت عن وردي فإذا أنا بحوراء تقول يا أبا سليمان تنام وأنا أربى لك في الخيام منذ خمسمائة عام.
وعن الشيخ أبي بكر الضرير رضي الله عنه قال: كان في جواري شاب حسن الوجه يصوم النهار ولا يفطر ويقوم الليل ولا ينام فجاءني يومًا وقال لي: يا أستاذ إني نمت عن وردي الليلة فرأيت كأن محرابي قد انشق وكأني بجوار قد خرجن من المحراب لم أر أحسن أوجهًا منهن وإذا فيهن واحدة شوهاء لم أر أقبح منها منظرًا فقلت: لمن أنتن ولمن هذه فقلن نحن لياليك التي مضين وهذه ليلة نومك فلو مت في ليلتك هذه لكانت هذه حظك ثم أنشأت الشوهاء تقول:
اسأل لمولاك وارددني إلى حالي ** فأنت قبحتني من بين أشكالي

لا ترقدنّ الليالي ما حييت فإن ** نمت الليالي فهنّ الدهر أمثالي

فأجابتها جارية من الحسان تقول:
أبشر بخير فقد نلت الغنى أبدًا ** في جنة الخلد في روضات جنات

نحن الليالي اللواتي كنت تسهرها ** تتلو القرآن بترجيع ورنات

أبشر وقد نلت ما ترجوه من ملك ** بر يجود بأفضال وفرحات

غدًا تراه تجلى غير محتجب ** تدني إليه وتحظى بالتحيات

قال: ثم شهق شهقة خر ميتًا رحمه الله تعالى.
وفي آكام المرجان: ظهر إبليس ليحيى عليه السلام فقال له يحيى: هل قدرت مني على شيء؟ قال: لا إلا مرة واحدة فإنك قدّمت طعامًا لتأكله فلم أزل أشهيه إليك حتى أكلت منه أكثر مما تريد فنمت تلك الليلة فلم تقم إلى الصلاة كما كنت تقوم إليها فقال له يحيى: لا جرم لا شبعت من طعام أبدًا قال له الخبيث: لا جرم لا نصحت آدميًا بعدك.
{وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ} أعطيناهم من المال {يُنفقُونَ} في وجوه الخير والحسنات.
قال بعضهم: هذا عام من الواجب والتطوع وذلك على ثلاثة أضرب: زكاة من نصاب، ومواساة من فضل، وإيثار من قوت.
{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلًا عمن عداهم {مَّآ أُخْفىَ لَهُم} أي: لأولئك الذين عددت نعوتهم الجليلة من التجافي والدعاء والإنفاق ومحل الجملة نصب بلا تعلم سدت مسد المفعولين {من قُرَّة أَعْيُنٍ} مما تقربه أعينهم إذا رأوه وتسكن به أنفسهم.
وفي الحديث: «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بل ما اطلعتم عليه اقرأوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين» {جَزَاءَا بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: جزوا جزاء بسبب ما كانوا يعملون في الدنيا من إخلاص النية وصدق الطوية في الأعمال الصالحة.
وفي التأويلات النجمية: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَن الْمَضَاجع} عن مضاجع الدارين وتتباعد قلوبهم عن مضاجعات الأحوال فلا يساكنون أعمالهم ولا يلاحظون أحوالهم ويفارقون مآلفهم ويهجرون في الله معارفهم يدعون ربهم بربهم لربهم خوفًا من القطيعة والإبعاد {وَطَمَعًا} في القربات والمواصلات {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ} من نعمة الوجود {يُنفقُونَ} ببذل المجهود في طلب المفقود وليردّ إليهم بالجود ما أخفي لهم من النقود كما قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ}. إلخ.
وفي الحقيقة إن ما أخفي لهم إنما هو جمالهم فقد أخفي عنهم لعينهم فإن العين حق.
فاعلم أنه ما دام أن تكون عينكم الفانية باقية يكون جمالكم الباقي مخفيًا عنكم لئلا تصيبه عينكم فلو طلع صبح سعادة التلاقي وذهب بظلمة البين من البين وتبدلت العين بالعين فذهب الجفاء وظهر الخفاء ودام اللقاء؛ كما أقول:
مذ جاء هواكم ذاهبًا بالبين ** لم يبق سوى وصالكم في البين

ما جاء بغير عينكم في عيني ** والآن محت عينكمو لي عيني

وبقوله: {جَزَاءَ بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يشير إلى أن عدم علم كل نفس بما أخفي لهم وحصول جهلهم به إنما كان جزاء بما كانوا يعملون بالإعراض عن الحق لإقبالهم على طلب غير الله وعبادة ما سواه انتهى. اهـ.